عام حافل بالسعادة!
في صيف عام 1975 قام ضابط في الجيش العراقي بإبلاغ أحد مقرات
حزبنا الشيوعي بتفاصيل عن جريمة بشعة تم التخطيط لها من قبل أجهزة السلطة بهدف
تفجير إحدى القاعات أثناء احتفال جماهيري قرر الحزب أقامته في مدينة كركوك.
ضابط أحمر في صفوف الجيش وفي عام 1975؟!
كان لذلك وقع الكارثة بالنسبة للنظام
العفلقي الذي حظر أي نشاط سياسي في صفوف القوات المسلحة إلا للحزب القائد! كما كان
ذلك صدمة قوية لجهاز الاستخبارات العسكرية الذي أشرف وفور استلام العفالقة للسلطة
في 1968 على تطهير الجيش من جميع الضباط والمراتب المشكوك بولائها لقيادة الحزب
والثورة!
الملازم الأول عامر سلطان لم يكن شيوعيا
ولكنه كان يكره الغدر, ولم يتردد لحظة واحدة في أن يعرض حياته للخطر, عندما أحس
بأن الموت يتهدد حياة العشرات من الناس الأبرياء.
اختفى عن الأنظار حين تم اكتشاف
أمره, ورفض تسليم نفسه إلا استجابة لطلب من الحزب بعد الحصول على وعود - !- من
أعلى المستويات في الدولة بمحاكمته بموجب مادة في قانون العقوبات العسكرية تقضي
بالحبس لمدة خمس سنوات والطرد من الجيش!
في أيلول 1975 وخلافا لجميع وعود (
الحلفاء)! اقتيد عامر سلطان إلى أقبية التعذيب التابعة للاستخبارات العسكرية في
مبنى وزارة الدفاع وثم إلى مقر وحدته في كركوك ثم إلى معتقل رقم واحد في معسكر
الرشيد, حيث تعرض طوال أكثر من ثلاثة شهور إلى تعذيب وحشي يفوق حدود التصور
لإرغامه على الاعتراف على انه أحد عناصر التنظيم الشيوعي في الجيش, ولم يستسلم,
رفض المساومة على ضميره وظل يردد الحقيقة التي كانت ترعب جلاديه, حقيقة إصراره على
أن صلته الوحيدة بالحزب هي صلة الفكر وبأن طموحه الوحيد في الحياة هو الانضواء تحت
راية الشيوعيين...راية فهد وسلام عادل!
ضابط في الجيش يريد أن يصبح شيوعيا؟!
تغير مجرى التعذيب وتحول هذه المرة إلى
محاولة كسر إصراره ودفعه للتراجع عن ما عقد العزم عليه, جربوا معه كل أشكال
التعذيب ومختلف وسائل الأغراء ولكنه ظل مصرا على موقفه حتى النهاية.
- هل ما زلت مصرا على الاستقالة من الجيش لكي
تنخرط في صفوف الشيوعيين؟! تساءل وبمنتهى الحقد رئيس محكمة الثورة, حين رد
بالإيجاب بصوت مدوي صرخ الجزار عبد الكريم النجار مسعورا: أن ضابطا في الجيش يريد
أن يصبح شيوعيا لا يستحق أن يرى شمس باجر! معلنا خلافا للقانون ولجميع الوعود
الحكم على الملازم الأول عامر سلطان في يوم أغبر من كانون الثاني عام 1976بالإعدام رميا بالرصاص.... وتم رفع القرار
لرئيس الجمهورية لغرض المصادقة عليه دون أي تأخير...و.....تدخل
الحزب وتم الاتصال – بالريس- مباشرة
فوعد – مجرد وعد!- بعدم تنفيذ الحكم وليدخل عامر إلى قاطع الإعدام في سجن أبو غريب
ملتحقا بالعصبة الباسلة من رفاق وأصدقاء الحزب الذين سبقوه إلى هناك وليسجل معهم
واحدة من أروع صور الصمود والصلابة إلى ا، نفذ نظام العفالقة جريمة إعدامهم في
أيار 1978 وكان ذلك بمثابة ساعة الصفر التي انطلقت على إثرها قطعان الفاشية في
ابشع وأوسع حملة لمطاردة الشيوعيين وسائر الشرفاء من أبناء شعبنا وعلى امتداد ربوع
الوطن.
* * *
* * *
بعد عامين من التعامل يوميا, وفي كل لحظة
مع خطر الموت الداهم, ظل عامر سلطان شامخا في وجه جلاديه, يتحداهم بإصراره, رافضا
أن يترك لليأس أي منفذ يتسرب من خلاله إلى داخل زنزانته, وقبل خمسة شهور فقط على
إعدامه, تمنى عامر بمناسبة حلول عام 1978 لجميع الناس الطيبين ( عاما حافلا
بالسعادة) سجل ذلك على أخر صفحة من
كتاب كان يطالعه حول المسرح, وتحت عبارته المفعمة بروح التفاؤل كتب:
سجن أبو غريب, قاطع الإعدام في31 –
12- 1977
عامر سلطان لم يكن شيوعيا, ولم تتحقق أمنيته في أن
ينال شرف العضوية في حزب فهد وسلام عادل إلا قبل ساعات معدودة من إعدامه, ولكنه
كان عراقيا أصيلا يحب الشيوعيين ويكره الاستسلام والخنوع.
هامش : جرى نشر هذا النص أول مرة عام 1990على صفحات العدد 105
من مجلة (رسالة العراق) الصادرة عن الحزب الشيوعي العراقي – أعلام الخارج, ومن الضروري التوضيح أن
العبد لله كان في موقع المتابع لما جرى من الوقائع بعد قيام الشهيد عامر سلطان
وشخصيا تسليم رسالة إلى مقر اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في بغداد تتضمن تفاصيل
عن محاولة مخابرات العفالقة تدبير عملية تفجير قاعة احتفالات في مدينة كركوك, خلال
حفل كانت تنوي منظمة الحزب الشيوعي أقامته في تموز عام 1975 مع العمل على إلقاء تبعات الجريمة على التركمان, بهدف
تكرار ما حدث في مدينة كركوك في تموز عام 1959 خلال الاحتفال الأول بثورة الرابع
عشر من تموز المجيدة, تلك الأحداث الدامية التي نفذها عملاء شركات النفط والقوى
الرجعية والتي كانت عمليا بمثابة ساعة الصفر للهجوم المنظم على ثورة الرابع عشر من
تموز وحرف مسارها تمهيدا للانقضاض عليها عبر قطعان العفالقة الهمج في شباط الأسود
عام 1963....و...أقول كنت في موقع المتابع وبشكل
مباشر على تبعات هذه الواقعة, نظرا لان العراقي الأصيل, الشهيد عامر سلطان, كان
خطيب شقيقتي سهام سالم داود المناضلة في صفوف الحزب الشيوعي العراقي.وكنت شاهد
عيان على المعدن الطيب للإنسان العراقي الذي يكره الغدر, شاهد عيان على صلابة وإخلاص
الإنسان لقيمه وقناعاته وهو يعيش بانتظار الموت في قاطع الإعدام, شاهد عيان على رحلته الأخيرة صوب مدينته
ومربع طفولته وشبابه : هيت. شاهد عيان على عربي يضحي بحياته من أجل أن يعيش
الأكراد والتركمان في كركوك بسلام ومحبة!