هذا المقال هو جواب على سؤال استفتاني به
مشكوراً، الزميل سمير سالم داود، بالسؤال التالي: هل
تعتقد إن من الممكن وعمليا إشاعة الوعي الديمقراطي في العراق بدون تحرير
الوعي العام من مخلفات ثقافة الزيتوني والمسدس العفلقية؟ وما هو السبيل بتقديرك
لضمان تحقيق هذا الهدف ؟
لا شك أن الحديث عن (الوعي)، سواء كان عن
الوعي الديمقراطي أو أي وعي آخر، سيجرنا إلى قضية فلسفية عميقة خاضها الفلاسفة
وعلماء النفس وعلماء الاجتماع منذ أمد بعيد ولحد الآن، لأن الوعي يتعلق بمسألتي
الفكر والوجود. فقبل نحو أربعة قرون قال الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596 -
1650م): "أنا أفكر إذن أنا موجود". وهذا
يعني أن وجود الإنسان مرتبط بقدرته على الوعي والتفكير. وكذلك لكارل ماركس (1818–
1883) مقولة مهمة بهذا الخصوص إذ يقول: "ليس وعي
الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم".
وهذا ما توصل إليه العلماء الآن، فالإنسان ابن بيئته وظروفه المعيشية ونتاج ثقافته
الاجتماعية الموروثة (culture).
وعليه فالوجود الاجتماعي هو الذي يحدد وعي
الإنسان وتفاعله مع واقعه. وهذا يعطينا الجواب على السؤال حول غياب الوعي
الديمقراطي وتخلف الوعي العام، وعلاقتهما بالبيئة الاجتماعية والسياسية
والاقتصادية المتخلفة التي أوجدها نظام البعث الفاشي والتيار القومي العروبي نحو
أربعة عقود، منذ انقلابهم الدموي الأسود في 8 شباط 1963.
فالمجتمع ليس كائناً هلامياً أو خيالياً،
بل يتكون من أفراد من البشر، لذا فسلامة المجتمع وسلامة وعيه تعتمدان على سلامة
الأفراد وظروفهم الاجتماعية والمادية. ومن خلال تجربتي الحياتية والثقافية توصلت
إلى قناعة أنه لا يمكن نشر وعي إنساني صحيح في أي مجتمع إلا بتوفر نظام حكم يحترم
حرية الإنسان الفرد. وبدون ضمان حرية الفرد يفقد الإنسان إحساسه بالأمان وبالتالي
يتم مسخ إنسانيته، فبدلاً من التعامل بالأسلوب الإنساني النزيه الصريح والصحيح مع
المجتمع والدولة، يلجأ هذا الإنسان إلى مختلف وسائل التحايل والمراوغة وحتى
العدوان، للتكيف مع البيئة القاسية ليضمن بقاءه في هذا الصراع.
وهذا ما حصل في العراق خلال فترة حكم
التيار القومي العروبي، وخاصة فترة نسخته البعثية الفاشية، حيث تعرض الشعب العراقي
إلى أشد أنواع القمع والقهر والاستلاب والاضطهاد والفقر والإذلال، والتجهيل
المتعمد وتفتيت النسيج الاجتماعي، ومسخ هويته، ومنع الإنسان العراقي من التفكير والتعبير،
أي استخدام عقله بحريته كما يشاء، وأخذ المبادرة في تسيير أمور حياته. ونحن نعرف
في العلوم الطبية أن الإنسان إذا توقف عن استخدام أي عضو من أعضائه، يصاب هذا
العضو بالضمور. وكذلك العقل والوعي والضمير، يصاب بالضمور في حالة عدم الاستعمال
لمدة طويلة. وقد منع النظام البعثي العراقيين من استخدام عقولهم لمدة طويلة. كما
ويجب أن لا ننسى أن نحو 85% من الشعب العراقي ولد في هذه الفترة، أي مرحلة الحكم
الفاشي الممتدة من 1963 إلى 2003م). وحلال هذه المرحلة حصل نكوص وتراجع في عملية
التطور الاجتماعي في العراق. وكما نعلم، فأي تراجع وتدهور في التطور الاجتماعي
يرافقهما تراجع وتدهور في الوعي وفي كل مجال.
لذا فالعراق يعاني الآن من كارثة ثقافية
واجتماعية رهيبة أسميتها بـ (الخراب البشري في العراق) كتبت عنها بإسهاب في خمس
حلقات (1). وعليه أتفق مع السؤال أنه لا يمكن نشر ثقافة ديمقراطية إلا بعد إزالة (مخلفات ثقافة الزيتوني والمسدس العفلقية). فالعملية أشبه
ببناء عمارة حديثة مكان عمارة قديمة متهرئة آيلة للسقوط، إذ لا يمكن بناء العمارة
الجديدة إلا بعد هدم العمارة القديمة وإزالة جميع مخلفاتها وأنقاضها، ومن ثم وضع
الأساس من الكونكريت المسلح، والعملية تأخذ وقتاً وجهداً. إلا إن الذي حصل في
العراق أنهم أرادوا بناء الدولة الديمقراطية الجديدة على أنقاض وخرائب الدولة
البعثية الاستبدادية الفاشية القديمة المنهارة. وهذا خطأ لم يدركه القادة
السياسيون المسؤولون عن التغيير إلا بعد فوات الأوان. وهذا الخطأ ليس بالأمر
الغريب في تطور المجتمعات البشرية، بل هو أمر طبيعي. فالمشكلة الأساسية التي تعاني
منها البشرية جمعاء في كل مكان وزمان، وخلال جميع مراحل تطورها الاجتماعي، وكما
يقول العلامة علي الوردي: "... مشكلة الإنسان انه لا
يستطيع أن يصل إلى الصواب رأسا، ومن الممكن القول: بان الخطأ طريق الصواب." فطيلة التاريخ
القديم والحديث، كانت المسيرة البشرية مليئة بالأخطاء و محفوفة بالمخاطر، لذا
فالنتائج لم تكن كما خطط لها صناع التاريخ.
ومن الأمور المؤكدة أن الديمقراطية لم تولد
في المجتمعات الغربية بين عشية وضحاها، بل مرت بمراحل معقدة وعملية ولادة عسيرة
وغالباً ما كانت ولادة قيصرية مصحوبة بالدم، والعراق ليس استثناءً. وفي رأيي أن
الأخطاء الكارثية التي مر بها العراق ومازال، هي حتمية لا بد منها. نعم هناك من
يقول أنه كان من المفروض أن يعملوا كذا وكذا لكي يتجنبوا الكوارث، ولكن هذه الآراء
العاقلة تظهر فقط بعد فوات الأوان والخروج من قاعة الامتحان!! إذ كما يقول
الإنكليز: (after
the event every body is clever) أي، بعد فوات
الأوان كل يدعي الذكاء ويقول (ألم نقل لكم كذا؟؟ ألم نحذركم من المخاطر؟). لكن
المشكلة أن الإنسان لا يكتشف الحل الصحيح ولا يعرفه إلا بعد أن يجرب الطرق
الخاطئة. أنا من الناس الذين يعتقدون أنه ما كان ممكناً للشعب العراقي إسقاط حكم
البعث بقواه الذاتية. نعم، التغيير من الداخل أفضل من تدخل القوى الخارجية، ولكن
ما العمل إذا لم يكن ممكناً تحقيق هذا التغيير من الداخل. لذا، أعتقد جازماً أنه
لولا الغزو الخارجي لبقي نظام البعث وراثياً وإلى أجل غير معلوم، وهذا يعني المزيد
من الاضطهاد والقهر والتقهقر والتخلف والقتل والدمار والفرار إلى الخارج. ففي
نهاية المطاف لا بد لهذا النظام الهمجي أن يزال، إن لم يكن عام 2003 فلا بد أن
يحصل في وقت آخر، وهكذا كان، وعند انهيار هكذا حكم فاشي قاس في الجور، لا بد وأن
يمر الشعب بهذه الزوبعة العاصفة، إنها عربدة التاريخ عند إنعطافاته الحادة.
يلقي البعض اللوم في تصاعد المد الديني على
هذا الزعيم الديني - السياسي أو ذاك وعلى "تقاعس" السياسيين والمثقفين
العلمانيين والديمقراطيين. أنا اعتقد العكس هو الصحيح، أي أن ظهور الزعماء
الدينيين على الساحة السياسية هو نتاج هذا المجتمع الذي نتج عنده الوعي الديني
السلفي الماضوي. إذ كما بينا آنفاً، إن انهيار الوعي والفكر والأخلاق ...الخ هو
ثمرة سيئة من ثمار حكم البعث الذي خلق الواقع الاجتماعي المتدهور. وبتعبير آخر، إن
تصاعد الوعي الديني هو نتاج الواقع الاجتماعي المادي وانعكاساته. ففي حالة الانهيار
الفكري والحضاري وتفشي الظلم والجور، يصاب الناس باليأس والإحباط من القوى
المادية، فيلجئون إلى الأفكار الغيبية وإلى الله والدين والطائفة والخرافة، طلباً
للخلاص من النظام الجائر وأوضاعهم المزرية، بعد أن فشلت القوى المادية إنقاذها.
وفي هذا الصدد، يقول الشهيد حسين مروة في
كتابه القيم (النزعات المادية في الفلسفة العربية-الإسلامية ج1 ) ما يلي: [يرشدنا
المنهج العلمي إلى حقيقة مهمة في تاريخ تطور المجتمعات البشرية والحضارات، هي أن
التراكمات الكمية ضمن مجرى هذا التاريخ يمكن ان يتخذ أشكالاً مختلفة في تحولها
الكيفي. يمكن مثلاً، أن تتحول إلى كيفية سياسية، أو اجتماعية، أو فكرية نظرية، أو
إلى نوع من العنف الثوري. لقد تابع إنجلس أشكال المعارضة الثورية لإقطاعية في
القرون الوسطى كلها، فوجد أن الظروف الزمنية، كانت تظهر هذه المعارضة حيناً في شكل
تصوف، وحيناً في شكل هرطقات سافرة، وحيناً في شكل انتفاضات مسلحة. ان شكل التحول
الكيفي في هذا المجتمع أو ذاك، وفي هذا الزمن أو ذاك، إنما تحدده طبيعة الظروف
الملموسة، وربما كانت الظروف هذه مؤهلة وناضجة أحياناً لحدوث تحولات كيفية مختلفة
الأشكال في وقت واحد، أي قد تجتمع في ظروف معينة تحولات سياسية واجتماعية وفكرية
معاً، قد ترافقها انتفاضات مسلحة، وقد تأتي هذه التحولات تمهيداً لانتفاضات مسلحة،
وقد يستغني بها التطور عن أشكال العنف الثوري كلياً.]
هذا الكلام ينطبق بالضبط على الحالة
العراقية الآن، حيث نجد مختلف الاتجاهات ومختلف أشكال الانتفاضة تعم البلاد،
انتفاضة دينية وطائفية، وهناك نضال مرير في سبيل الديمقراطية الحقيقية، كما وهناك
نهوض يساري وعلماني وليبرالي .... الخ. لذا، فما يجري الآن هو عملية ولادة قيصرية
للعراق الجديد... عملية قاسية مصحوبة بالدماء والآلام والدموع والتضحيات.
هناك جبال من الأنقاض والأوساخ والمزابل
الفاشية التي يجب إزالتها لتنظيف الوعي العراقي منها ومن سموم الأيديولوجية
البعثية وآثارها المدمرة، لتهيئة الأرضية لبناء الدولة الديمقراطية ونشر الوعي
الديمقراطي. وهذا يحتاج إلى نضال دؤوب وصبر جميل والثقة العالية بالنفس وبقوانين
حركة التاريخ بأن الأفكار الضارة لا بد لها أن تزول وتنتهي إلى مزبلة التاريخ، لأن
في نهاية المطاف لا بد للحق أن ينتصر، والمسيرة التقدمية ستواصل سيرها إلى الأمام
وإلى الأعلى. فهكذا خرجت الدول الأوربية خلال مسيرتها الحضارية من ظلام التخلف في
القرون الوسطى المظلمة، مروراً بعصور النهضة والتنوير إلى أن حققت الحضارة
المتقدمة والديمقراطية الناضجة التي تنعم بها شعوبها الآن.
ولكن هذا لا يعني تأجيل نشر الوعي
الديمقراطي، فالعمليتان، تنظيف المجتمع من مخلفات الأيديولوجية الفاشية، ونشر
الوعي الديمقراطي، يسيران جنباً إلى جنب وفي وقت واحد، أي إزالة الفكر الفاشي
وإحلال الفكر الديمقراطي محله في نفس الوقت. كذلك لا مناص من ممارسة الديمقراطية
في نفس الوقت الذي يتم فيه نشر الوعي الديمقراطي. فالديمقراطية مثل السباحة
والجراحة، لا يمكن تعلمهما بقراءة الكتب وحدها والخطب الرنانة، كما يعمل وعاظ
السلاطين، بل بالممارسة العملية أيضاً. نعم تحصل مشاكل وتقع أخطاء كبيرة خلال
عملية ممارسة الديمقراطية، وهذا أمر لا بد منه في التطور الحضاري، ولكن
الديمقراطية هي وحدها الكفيلة بحل المشاكل والأخطاء الناجمة عن تطبيقها.
قد يعترض البعض على هذا الكلام، ولكن دوري
هنا هو محاولة لتفسير الظاهرة التي يمر بها العراق وليس تبريرها، فالتفسير شيء
والتبرير شيء آخر. نعم، كل إنسان شريف يتمنى لو سارت الأمور في العراق بشكل آخر،
أكثر سلامة وأقل عنفاً وتضحيات وتبنى المسؤولون خططاً وإجراءات تمنع أو على الأقل
تقلل من كوارث سقوط الفاشية. ولكن هذه مجرد تمنيات وأفكار رغبوية wishful thoughts . إذ كما قال ماركس:
"الناس يصنعون تاريخهم بأنفسهم، ولكن النتائج غالباً
ما تكون على عكس ما يخططون". فالتاريخ له حساباته الخاصة لا يمكن
تجاوزها، كما ولا يمكن القفز على أية مرحلة تاريخية إلا بعد أن تستنفد أسباب
وجودها. إن المد الديني مرحلة لا بد منها وستنتهي بعد أن يثبت الإسلامويون فشلهم
في حل مشاكل الشعب.
إن إسقاط النظام الفاشي في العراق عن طريق
التدخل الخارجي هو من ضمن الضرورات التاريخية، حيث قدم خدمة كبيرة للشعب العراقي
وللعالم، لأن بإسقاط الفاشية في العراق أزال أكبر عقبة أمام التطور الحضاري وفسح
المجال أمام نشر الوعي الديمقراطي وبناء الدولة الديمقراطية.
د. عبد الخالق
حسين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقال ذو علاقة بالموضوع: الخراب البشري في العراق
http://www.sotaliraq.com/abdulkhaliqhussein.php?id=320