وقائع من ذاك الزمان

أنعل أبوكم على أبو الإذاعة!

ملحق أول

أقول باشرت العمل في مجلة الإذاعة والتلفزيون بشكل غير متوقع, وبمحض الصدفة تماما, نظرا لان العبد لله كان من المقرر أن يستكمل ,وفي ذات اليوم تحديدا, إجراءات التعيين, تمهيدا للمباشرة في العمل, بوظيفة مذيع في إذاعة بغداد, وذلك بعد النجاح بتفوق وبشهادة اللجنة المشرفة على الاختبار,وكانت تضم أحد أشهر المذيعين يوم ذاك في العراق, أقصد حافظ القباني, ....و....صدقا ليس فقط لان صوت داعيكم مناسب, مع قدرة متميزة على صعيد الإلقاء, وإنما لان إشعال هذه الوظيفة, ووفق المنشور من صيغة الإعلان, كان يشترط وللمرة الأولى, امتلاك القدرة على تحرير المادة الإذاعية صحفيا, وتلك كانت عندي سالفة, لا تتطلب من المهارة ما يتعدى حدود شرب قدح من الشاي....و...لكن؟!

الحصول على هذه الوظيفة, والتي كانت لا تشترط ووفقا للمنشور من الإعلان,* غير المطلوب من امتلاك الكفاءة, والنجاح في الاختبار, كانت تتضمن في الواقع شرطا إضافيا غير معلن, واكتشفت أمر وجوده, يوم حان موعد استكمال إجراءات التعيين, في قسم الإدارة أو يمكن الحسابات, لا أذكر اليوم, غير أن محل عمل هذا القسم, كان يقع قريبا من مبنى الإذاعة والتلفزيون, وتحديدا  يحتل الطابق الأول من مبنى وكالة الأنباء العراقية القديم, أيام ما كانت لا تزال في منطقة الصالحية وتطل مباشرة على ساحة جمال عبد الناصر, ...و...لكن؟!

عوضا عن استكمال هذه  الإجراءات الروتينية, كما كان يفترض, للمباشرة في العمل في الإذاعة, وجدت نفسي في مواجهة واحد عفلقي بدرجة ( نص الوجه مزروع بوسخ الشارب والباقي بس الله يدري) والذي كان ودون أن أدري لماذا, مرتبكا بعض الشيء, ربما بفعل الدهشة من ( قلافة داعيكم) بالمقارنة مع حجمه الضئيل للغاية, أو كما لو كان يخشى نسيان ما يفترض أن يتقيائه من مطلوب القول, وبحيث راح وعلى الفور, يردد وعلى عجل, بعض القليل من كاذب التأكيد وحد المقرف من المبالغة, على قدرات  (حضرتك) للعمل في هذا المرفق الإعلامي , وإعجاب لجنة الاختبار الشديد, بصوت ( حضرتك) المناسب كلش للعمل الإذاعي ...الخ...الخ أفلام شيم العربي وبعدين نزعه لباسه, قبل أن يقول في الختام, ما يريد تحديدا من وسخ زبدة القول, وبما معناه بالواضح من العبارة وأن كان بشكل غير مباشر: العمل في هذه الوظيفة, يتطلب الانتماء (لحزبهم), مع التأكيد على أن ذلك مجرد قضية شكلية, بحكم ما اسماه الضرورات الأمنية, لحماية هذا المرفق الإعلامي الخطير والمهم للغاية...الخ ...الخ مفردات هذا السخيف من الخريط, والذي كان بتقديري, ومن قبيل الأمانة في ذكر الوقائع, لا يتعدى, وعلى الأقل في تلك الساعة, حدود عملية جس النبض, بهدف معرفة مدى استعداد العبد لله لاحقا, للقبول أو بالأحرى, الخضوع والرضوخ لهذا السافل والدنيء من الطلب, أو بالأحرى هذا المشين من فعل الازدواجية, ما بين المعلن من الشروط علنا, للعمل بوظيفة مذيع, وما هو النقيض تماما من الشرط عند حلول ساعة المباشرة في هذا العمل!

و...كان جواب داعيكم على ما تقدم من الخريط مجرد التساؤل: ...هل تريد القول إذا جنابك ما تريد... أكو ألف غيرك يريد؟! تساءلت متعمدا وبما يكفي من الامتعاض, على الرغم من أن هذا الدوني, ما كان يقصد ذلك تحديدا, وكنت أعرف سلفا, أن الجواب سيكون قطعا بالنفي, ولكن في تلك اللحظة, ما عاد يهمني صدقا ما هو أكثر, من مجرد مغادرة هذا الوسخ من المكان, للتخلص من هذا المقرف والشاذ من الحديث, وبعد أن اكتشفت وبالملموس  من التجربة, ما كنت أتمنى صدقا, أن يكون خلاف التوقع**...و....لابد من الاعتراف, أن هذا الوارد في سياق ما تقدم من العبارة, ما كان وحسب هو الدافع الوحيد للغضب والامتعاض, وإنما كان هناك في الواقع دافع أخر كان هو الحاسم والأساس, وأقصد تحديدا مرارة اكتشاف مدى سخافة التفكير أساسا, بالعمل بوظيفة مذيع, ولمجرد البليد من الاعتقاد, أن تحرير المادة الإذاعية صحافيا, يمكن أن تحول دون أن يغدو المذيع وتدريجيا, وحتى ولو لم ينتمي للبعث, لمجرد ( بوق) لا يملك من الخيار, غير ترديد المطلوب تمريره عفلقيا, عبر المذياع أو من على شاشة التلفزيون!

و...بعد هذا السخيف من اللقاء, والذي أطاح عمليا, بالمشروع من الطموح, للعمل الوظيفي في الميدان الإعلامي, حدث ما يؤكد أن العاثر من الحظ, كان يترصد خطواتي بمنتهى الدناءة, وأقول متعمدا العاثر من الحظ, وأن كنت لا أدري صدقا, ما إذا كان مصيري على صعيد العمل الوظيفي, سيكون على نحو مختلف, في حال العمل في مؤسسة إعلامية أخرى غير الإذاعة والتلفزيون...و....باختصار شديد, كنت على وشك مغادرة المكان مرددا مع نفسي: أنعل أبوكم على أبو الإذاعة, ساعة دخول أحد زملائي في قسم الصحافة, وكان يعمل بوظيفة مصمم في مجلة الإذاعة والتلفزيون, وبدون تردد, وعفوا الخاطر وجدت في هذه الصدفة من اللقاء, فرصة لا تعوض لتفريغ ما كان يعتمل في النفس من مشاعر النقمة والغضب , دون الانتباه لمدى حرج أو بالأحرى خشية هذا الزميل, وكان يوم ذاك هب بياض سياسيا,*** من أن ( ينجتف بتقرير) بفعل ما كنت اردده من غاضب العبارة, وبحيث أسرع المسكين بدعوتي لزيارة مكان عمله في المجلة, والتي كانت يوم ذاك, تحتل الطابق الأعلى في ذات المبنى, مبنى وكالة الأنباء العراقية, وحيث كانت بانتظاري مفاجأة غير متوقعة تماما!

كنت أعرف سلفا ومن خلال هذا الزميل بالذات, أن كادر تحرير مجلة الإذاعة والتلفزيون, وعلى حد تعبيره حرفيا  (كلهم من ربعك) ولكن ما كنت أدري مطلقا, أن سكرتير التحرير الزميل (........) مع اللقب, هو ذات شقيق أحد زملائي أيام الدراسة المتوسطة, والذي كنت أعرف شخصيا من يكون, ولكن بدون لقب, وفي ذاكرتي كانت تقيم بعض مفردات الجميل من صفحات ماضيه النضالي, باعتباره كان بين من جرى اعتقالهم من الشيوعيين بعد شباط العفالقة الهمجي في عام 1963 وظل في السجن لغاية صدور قرار إطلاق سراح المعتقلين السياسيين, بعد أن عاد العفالقة للاستيلاء على السلطة من جديد في عام 1968 وأضطر بدافع الحاجة للعمل بعض الوقت, بائعا جوالا, ودون أن أدري متى, أو كيف باشر العمل لاحقا في مجلة الإذاعة والتلفزيون.

و......بتكثيف شديد للعبارة, أستطيع القول, أن الرجل وفور الوقوف على تفاصيل ما حدث, بصدد سخيف التلميح عن اشتراط الانتماء للبعث مقابل الحصول على وظيفة مذيع, تساءل عن مدى استعدادي للعمل تحت التدريب, بوظيفة منسق أرشيف في المجلة, ودون أن يدري أن مجرد تعاطفه مع موقفي, وحتى بدون عرض العمل, كان عندي بمثابة الجميل من الصنع, ويستحق كل التقدير والإشادة .... و.....هكذا في ذات الساعة, ساعة فقدان فرصة العمل بوظيفة مذيع, توفرت للعبد لله فرصة عمل, ما كانت تخطر على الذهن, ورغم أن الجديد من الفرصة,ما كانت تتوافق مع ما أملك من القدرة في ميدان الكتابة, ولا تنسجم مع مستوى الطموح, ولكن وبعد ما حدث بصدد العمل في الإذاعة, وجدت أن العمل في الأرشيف بالذات, وبعيدا عن ممارسة فعل الكتابة, يمكن أن يكون وعمليا هو المناسب من المكان للعمل, بما يضمن الحصول على راتب شهري, ودون الدخول في المشاكل مع سافل العفالقة, الأمر الذي كان بدوره في الواقع, لا يتعدى حدود الوهم وبليد الاعتقاد, حيث أكتشف لاحقا وتدريجيا, أن العمل, وتحديدا في المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون والسينما والمسرح والفنون الشعبية, وبغض النظر عن طبيعة ما يمارس المرء من المهنة, يشكل ضربا من اقتحام الصعاب والمصاعب, ودوام العيش وباستمرار تحت هاجس المراقبة, وفي ظل دائم القلق, من سالب تبعات ما يمكن أن يجري, أن رفض المرء, أن يكون كما يريد العفالقة, طوع البنان ورهن الإشارة , وبحيث  لا يملك من الخيار, غير تنفيذ  المطلوب من الأوامر والتعليمات, دون مناقشة أو تردد, إلا إذا كان لا يعرف فنون الخضوع, وعلى دائم الاستعداد, لدفع ضريبة اعتماد موقف الرفض....هذا الرفض الذي قاد العبد لله, وبعد ما يزيد قليلا عن العامين من الزمن, للعودة من جديد للمربع صفر, وبالتحديد من حيث كانت البداية, ساعة اللقاء مع العفلقي صاحب الوجه المزروع بوسخ الشارب! 

 

سمير سالم داود

alhakeca@hotmail.com  

* للعلم اعتقاد العبد لله بعدم وجود شرط الانتماء لحزب العفالقة للعمل بوظيفة مذيع, ما كان ينطلق وحسب, مما كان يسود الوضع العام سياسيا من أجواء التفاؤل,, ولا من عدم وجود مثل هذا الشرط في نص الإعلان المنشور في الصحف, عن توفر وظائف شاغرة في إذاعة بغداد, وإنما كذلك من خلال تأكيد أحد زملائي في قسم الصحافة, وهو المذيع البعثي المعروف يوم ذاك, موفق العاني, والذي كرر مع الحلفان بإغلاظ الأيمان, على عدم وجود مثل هذا الشرط, خصوصا وهو يعرف تماما, ومن خلال سياق ما كان يجري من محتدم المناقشات ( طالع الهامش), طبيعة توجهات العبد لله اليسارية, وبحيث ظل المسكين وبعد أن عرف لاحقا تفاصيل ما حدث, يتعامل مع داعيكم بحرج شديد, على الرغم من أن الرجل, ولتأكيد صدق ما وعد من القسم, تطوع للحديث مباشرة مع الصحاف, بهدف تجاوز ما حدث ولضمان مباشرتي العمل في الإذاعة, الأمر الذي ما عاد يشغل اهتمامي نهائيا وبالمطلق, لما ورد ذكره سابقا, عن الأساس من دافع الرفض , وبغض النظر عن المباشرة العمل في أرشيف مجلة الإذاعة والتلفزيون!

** أقصد تحديدا الوقوف ومن خلال هذا الملموس من التجربة, على حقيقة هذا الضرب من نذل ممارسة فعل الازدواجية من قبل العفالقة, ممن كانوا يتحدثون وبضجيج يوم ذاك, عن أهمية وضرورة الاستفادة, من جميع أصحاب الكفاءات من أهل العراق, بغض النظر عن اتجاهاتهم السياسية, بهدف تطوير ملاكات العمل في المختلف من الدوائر والمؤسسات الرسمية...الخ...الخ ومن ثم يمارسون وعمليا, ما هو النقيض تماما, من خلال توظيف ما يملكون من مطلق من السطوة, في التحكم بالمال العام, ووجودهم في موقع القرار سياسيا, للمباشرة عمليا ومنذ تلك الفترة من الزمن, في تقديم مختلف أشكال الإغراء ورخيص المنافع, لكسب وشراء ذمم أكبر عدد ممكن من الناس بشكل عام, وخصوصا في الوسط الثقافي والإعلامي, وذلك بالترافق مع المباشرة في فرض شرط الانتماء لحزبهم, في بعض مواقع العمل وفروع الدراسة, فضلا عن جميع دوائر المؤسسات العسكرية وفي السلك الخارجي  ....الخ ما شكل لاحقا الأساس والمنطلق, للمباشرة وبعد أعوام معدودة, في تنفيذ البشع والهمجي من مفردات جريمة تبعيث المجتمع العراقي بالقوة!

*** لابد من التوضيح أن هذا الزميل القادم من مدينة التمرد سياسيا وثقافيا (الناصرية) للعيش في الراقي من السكن في حي المنصور, أختار منذ البداية ومع سبق الإصرار والترصد, البقاء بعيدا عن وجع وبلاوي السياسية, وبحيث كان يتجنب تماما, المشاركة فيما يدور من محتدم النقاشات السياسية, وكان يعيد التأكيد على وجوده في قسم الصحافة, لا يستهدف سوى العمل تحديدا وفقط في ميدان التصميم الصحفي, وهذا ما تحقق بالفعل يوم حصل وبسرعة على وظيفة مصمم في مجلة الإذاعة والتلفزيون ! ...و....بالمناسبة معظم زملاء الدراسة في قسم الصحافة, كانوا يعملون ومنذ سنوات حكم عارف , في المختلف من المرافق الإعلامية, وجميع هولاء الزملاء عادوا من جديد لمقاعد الدراسة, بموجب قرار صدر عن أول وزير للإعلام في سلطة البعث (سلوم السامرائي) والذي شكل عمليا, الأساس لضمان فتح دورة جديدة في قسم الصحافة للعام الدراسي 1968 بعد أن كان من المقرر خلاف ذلك, نظرا لان ناقصي العقل, ممن تقدموا مع العبد لله في ذلك العام, للتسجيل في هذا القسم, كان أقل بكثير من العدد المطلوب, وفي الواقع كان أقل من عدد أصابع اليدين, ومن ضمنهم ثلاثة من الطلبة العرب,أحدهم صار لاحقا نقيب الصحفيين في الأردن, والثاني صار وكيلا لوزير الإعلام فور عودته لليمن الشمالية, والثالث فلسطيني لا أدري وين صار بعد أن سافر للكويت بهدف العمل هناك!

هامش : لابد من التوضيح أن احتدام النقاشات خلال مرحلة الدراسة في قسم الصحافة,ما كانت تدور في الظاهر العام عن الوضع السياسي وبشكل مباشر, وإنما عن وحول المختلف من الموقف فكريا وبالتالي سياسيا, من المفاهيم والنمط المطلوب أن يسود ويتحكم ميدان العمل الإعلامي, وذلك على خلفية الحاد من اختلاف توجهات أساتذة القسم على هذا الصعيد, وتحديدا أساتذة المواد الأساس المتعلقة بالصحافة, وبشكل خاص واستثنائي ما بين توجهات الدكتور خليل صابات والتي كانت تنطلق من مفردات ومفاهيم المدرسة البرجوازية, والأمريكية بشكل خاص, وعلى النحو كانت تجسده مصريا تجربة الأخوين أمين , وتوجهات رئيس القسم الدكتور أحمد كامل وهو الأخر من مصر, ذات الطابع القومي ناصريا, في حين كانت توجهات الدكتور زكي الجابر أقرب ما تكون للمدرسة الأوربية ليبراليا, فيما كانت توجهات الدكتورة حميدة سميم العائدة من الاتحاد السوفيتي, تنطلق مما كان يعرف يوم ذاك بالنظرية الاشتراكية في ميدان الإعلام....و....للعلم زملائي في قسم الصحافة وباستثناء بعض المعروف من البعثيين مثل موفق العاني ( اختفى تماما بعد أن جرى طرده مع الضرب المبرح في عام 1974 ولا أعرف لماذا)  وجليل العطية الذي (أنشق مبكرا عن النظام) ومحسن خضير ( كان يوم ذاك من الجناح اليساري المنشق) وماجد السامرائي,  كانوا في غالبهم العام, في موقع الهب بياض سياسيا, أو بعضهم في بداية العمل مع حزب العفالقة, وكان بينهم وكما اكتشفت لاحقا, رفيق في الحزب الشيوعي العراقي, وأخر كان يتعاطف مع جماعة القيادة المركزية...و....العديد من زملاء الدراسة, واصلوا تحصيلهم العلمي, ومن بينهم من بات لاحقا يمارس التدريس في قسم الصحافة, قبل الانتقال لاحقا لمباشرة مهمة التدريس في كليات الإعلام في بعض جامعات الدول العربية.